لطالما كان بديع طالباً مجتهداً وفطناً في المدرسة كحال صديقيه المقربين توفيق وداني، عندما تخرج من المدرسة أتاح له انسبائه العمل في شركتهم المختصة بمجال الاتصالات براتب مغري جداً لشاب غير جامعي. طابت الفكرة لتوفيق أيضاً، فراتب الوظيفة سيتيح له التنعم برفاهية الحياة الشبابية، لكن صرامة والده اجبرته التقيد بأولوية الانتهاء من الدراسة الجامعية قبل الشروع بالعمل. فور حصوله على شهادة المحاسبة وفرّ له والده وظيفة محاسب في إحدى الشركات الكبيرة الرائدة مستخدماً نفوذه. أما داني الذي كان قد رفض عرض بديع قبل دخوله الجامعة بالرغم من عسر حاله المادي، اختار بعد تخرجه من كلية التجارة العمل في شركة صغيرة ناشئة براتب زهيد كموظف مبيعات. قلة عدد الموظفين وسرعة تطور العمل جعلاه يقوم بعدة أدوار داخل الشركة، كما دفعته حشريته المهنية للتدرب مساءً في أحد مكاتب المحاسبة لإتقان تحليل التقارير المالية، وقاده ايمانه بأهمية التحصيل العلمي دراسة الماجيستير في مجال إدارة الأعمال. سرعان ما أصبح داني رئيساً لقسم المبيعات، وأضحى بعدها مديراً لأحد فروع الشركة مستفيداً من تنوع خبرته. بعد سنتين، تمّ تعيينه نائباً للمدير التنفيذي. بيد أنه لم يمكث طويلاً إذ عرضت عليه إحدى الشركات المرموقة وظيفة ادارية رفيعة المستوى براتب عالي.لا زال بديع يعمل في المؤسسة عينها منذ عشر سنوات بتطور بطيء، أما توفيق فحاله أفضل نسبياً من بديع لكنه لم يتقدم وظيفياً إلا قليلاً، كلاهما يغبطان صديقهما داني لوافر حظه ويحملا طالعهما سوء وضعهما الوظيفي. يقول الفيلسوف برتراند راسل "ليس للجاهل سوى الحظ سواءً في اخفاقه أو تفوقه".كثيرٌ من الناس يرمون فشلهم أو عجزهم عن تحقيق مبتغاهم على الحظ دون أن يقيّموا بإنصاف مسيرتهم العملية التي آلت إلى واقعهم الراهن. فهم يتناسون كم الفرص التي هٌيأت لهم في السابق. فكم كان بديع ابن الثمانية عشر عاماً موفقاً ومتقدماً حينما وجد وظيفة مميزة في أول شبابه، لكنه اكتفي بشهادته المدرسية وتقاعس عن متابعة تحصيله العلمي سواء أكاديمياً أو مهنياً فركد في مركزه الوظيفي دون أي تقدم ملحوظ. غالباً ما تأتي الفرص الأولى بمظهرٍ براق متلألئ لكن هذا اللمعان لا يدوم طويلاً فسرعان ما يتحول إلى رمادي وقاتم في المستقبل القريب ويزول الشعور بالرضا والأمان ليسكن مكانه الاحباط والخيبة. فمن السذاجة بمكان أن يكتفي المرء بتقييم فرصه الوظيفية بالحسابات الراهنة فقط دون قراءة فعاليتها على المدى المتوسط والطويل. فحاله كحال من يجد نفسه فجأة في حفرة باردة جداً وبجانبه سلم خشبي، فيختار أن يشعل النار بخشبات السلم ليتدفأ من شدة البرد ناسياً أنه بذلك يحرق وسيلة نجاته الوحيدة.